ستون عاما اكتملت اليوم من عمر ثورة 23 يوليو، تلك الثورة الخالدة التى كلما تراكمت على ذكراها السنين وتعاقبت عليها الحقب والعصور ازدادت أَلَقًا ولمعانا وتبدت مبادئها النبيلة ومنجزاتها وجوهرها التحررى النهضوى أشد وضوحا وأعمق رسوخا فى ضمير شعب مصر وشعوب أمتها العربية، بل والإنسانية جمعاء.. فكل عام أنتم بخير.
أظنه كاف جدا أن عبد الله الفقير كاتب هذه السطور، ينتمى إلى جيل ما كان بمقدور أغلبه أن يعرف الحياة أصلا أو تعرفه لو لم تكن هذه الثورة، وليس الأمر أننا تعلمنا بفضلها وانفرجت الأبواب أمامنا واسعة لكى يسبح من يشاء منا فى نور العلوم والثقافة والمعرفة، وينهل (مجانا تقريبا) من أرقى إنتاج الحضارة والتقدم الإنسانيين.. الأمر أعمق وأكبر من ذلك بكثير، فقد كان أهلنا ينتمون إلى كتلة بشرية هى الأغلبية الساحقة من سكان هذا البلد ومع ذلك ظلت (بغير مبالغة) قرونا طويلة هابطة وخارج كل حساب وتكابد عيشة بؤس وتخلف وعدم، تحت سطح حياة مجتمعية لم تكن مباهجها متاحة عمليا إلا لحفنة لا تتجاوز نسبتها نصف واحد فى المئة.
ولما خرج قائد الثورة وأيقونتها الخالدة جمال عبد الناصر (فى أحد تجليات عبقرية المصادفة التاريخية) من رحم وقلب هذه الكتلة المحرومة ظل طوال عمره القصير (مات عن 52 عاما) ملتزما بمصالحها ومشدودا إليها وشديد الإخلاص لهدف أن تصعد وتتحرر من أغلال البؤس والتخلف وأن تمسك بحقوقها الإنسانية كاملة فتنهض وينهض الوطن معها، لهذا أنجز ورفاقه الأحرار منجزات هائلة بقيت جيلا بعد جيل تحلق فى سماوات الأحلام فإذا بها تهبط على أرض الواقع بسرعة مدهشة، فمثلا بعد 48 يوما فقط من نجاح الثورة كان عبد الناصر ينفذ أول قانون للإصلاح الزراعى (تلته قوانين أخرى) بمقتضاه عرفت آلاف أسر الفلاحين الغلابة المعدمين لأول مرة معنى أن تملك شيئا من أرض الوطن التى تولد وتموت عليها وترويها بعرقها ولا تكاد تنال شيئا من ثمارها وخيرها.
وإذا وضعنا جانبا تتويج الكفاح الوطنى الطويل للخلاص من ربقة الاحتلال الأجنبى وإنهاء هيمنة المستعمر على مقدارات البلاد المادية وقرارها السياسى معا، فقد توالت بعد ذلك مئات الخطوات والأفعال الثورية وتداعيات حلقات سلسلة هائلة من القوانين والإجراءات والخطط الاقتصادية والاجتماعية ومئات المشاريع التنموية الزراعية والصناعية والتعليمية والثقافية التى غيرت وجه مصر تماما وقفزت بها من حضيض التأخر والضعف والفقر إلى رحابة الازدهار والتقدم المضطرد على كل صعيد، فأضحى الانتساب إلى هذا البلد معنى وقيمة وشرفا عظيما، إذ تبوّأ المكانة التى يستحقها، ليس بين أمته وفى إقليمه فحسب، وإنما على خارطة الدنيا كلها.
هذه هى ثورة 23 يوليو، وتلك هى أسباب روعتها وعظمتها وسر بقائها فتية متألقة وحية فى وجدان شعبنا وأمتنا ومستعصية على التبدد والنسيان.. صحيح هى ثورة لم تكتمل بعد، وواجهت تحديات مرعبة وتعثرت فى إخفاقات مؤلمة، ربما أهمها وأخطرها أنها لم تتمكن من حماية جماهيرها الغفيرة ومنجزاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الهائلة بنظام سياسى ديمقراطى متطور، كان من شأنه أن يرفع جاهزيتها ويقوى مناعتها ويصد عنها الحروب والهجمات المضادة الرهيبة التى نجحت فى تعطيلها بعد رحيل قائدها، وأوقفت بالفعل مسيرتها التقدمية والنهضوية وارتدت بحدة، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضى، عن خياراتها وأهدافها التحررية النبيلة الراقية.
كل هذا صحيح وحقيقى لكن الحقيقة الأكبر والأكثر نصوعا الآن أن ثورة يوليو تعطلت، لكنها لم تتبدد ولم تمت وأن منجزاتها المادية ربما أهدر منها الكثير (أربعون عاما تسرق وتستنزف ومع ذلك ما زال أقواها باق يقاوم الهدم بصلابة). أما منجزها البشرى والإنسانى فهو أقوى وأهم الحضور فى هذه اللحظة، فانظر إلى الملايين الذين صنعوا وفجروا ثورة يناير وصاغوا شعاراتها الأساسية التى هى نفسها أهداف الثورة الأم، أليس هؤلاء هم حصاد يوليو؟ حصاد مجتمعها الناهض المتحرر من التخلف والاستغلال، حصاد مدارسها وجامعاتها ومصانعها وأراضى الإصلاح الزراعى التى وزعت على جماهيرها، ومنهم أسرة الدكتور محمد مرسى الذى تعلم وترقى وأضحى رئيسا للبلاد بفضل السياسات والخطط والمشروعات اليوليوية فى خمسينيات القرن الماضى وستينياته، تلك التى استنكرها وأنكرها سيادته علنا فلم ينتقص من قيمتها خردلة واحدة، وإنما فقط تبرع بالدليل رقم ألف على أنه وجماعته ما زالوا يقاومون بعناد، ليس فقط التحلى بفضيلة الاعتراف بالحقائق، بل يجاهدون جهاد الأبطال لأن لا يعرفوا أو يتعلموا شيئا.. أى شىء.
كل 23 يوليو أنتم طيبون.
Sent from my BlackBerry® from Vodafone
No comments:
Post a Comment